الشخصية هي [أنا] وهل هي تتكون؟ كما قال بذلك جمع من علماء الاجتماع، أم هي شيء يولد مع الإنسان وإنما ينمو، كما قال به آخرون؟ وهل هو شيء واحد، أو اثنان، أو ثلاثة، كما قال بكل ذلك جمع؟ احتمالات.
وفي الحديث: (من عرف نفسه فقد عرف ربه) (1) قال جماعة فيه، أنه كناية عن أن الإنسان يستحيل أن يعرف نفسه، كما يستحيل أن يعرف ربه، وقال آخرون أن المراد به أن الإنسان إذا التفت إلى نفسه وأنها مخلوقة جاهلة عاجزة و… عرف أن لها خالقاً عالماً قادراً… والقائلون بأن [أنا] لا يولد، بل يتكون قالوا: بأن [أنا] عبارة عن جملة من أعمال الفعل وردود الفعل التي يكتسبها الإنسان في مسيره الطويل من الأسابيع الأولى من الولادة، إلى آخر عمره، حيث أن [أنا]: أي [الشخصية] لا يولد، وإنما بالتدريج يعرف الطفل أنه غير إنسان آخر، ثم تتبلور هذه الشخصية بملاحظة:
1 ـ عمل الناس تجاه الإنسان.
2 ـ وعمل الإنسان تجاه نفسه أو تجاه الآخرين، وتصورات الإنسان عن نفسه وعن الآخرين أول ما يشعر، مبهمة غاية الإبهام، ثم تأخذ في الوضوح، والوضوح الأكثر، حتى تصل إلى درجة الكمال، حيث ليس فوقه كمال لكن الكنه يبقى مجهولاً على كل حال.
ولذا قال أحد العلماء: إن معرفة كنه الأشياء من أشكل المشكلات، وقال آخر: إنه مستحيل، ثم أردف، إنا قد علمنا بعد دركنا لكل فنون العلوم: أنه لم نعلم شيئاً.
لكن هذا القول لم يتم عليه دليل، إذ الظهور تابع للواقع ـ كما قالوا بذلك في الحركة الجوهرية، وإن ظهور الحركة دليل على واقع الحركة في الجوهر ـ… أما من قال بأن في الإنسان [أنا] و [أنا]، استدل بما يجده الشخص، من نازع ينزع فيه إلى الخير وينهى عن الشر، ونازع بالعكس ـ إذ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد ـ ومن قال بـ[ـأنا] ثالث، استدل بما يشاهد منحكم ثالث بين النفرين [أنا، وأنا] لكن دليل كلا الرأيين ليس مقنعاً، وفي القرآن الحكيم: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها) (2).
وفي الحديث: (إن في قلب الإنسان لمتين لمة من الملك وأخرى من الشيطان) (3).
وفي حديث آخر، تفصيل وجود جنود العقل وجنود الجهل (4)، وكيف كان فالمهم التكلم عن [الشخصية] مما يجدها كل إنسان وهو مهم علم الاجتماع.
تكون شخصية الطفل
إن الطفل يلاحظ الأشياء حوله، بحواسه الخمسة، سواء ما تفعل الطبيعة أو الحيوان أو الإنسان، سواء بالنسبة إلى الطفل، أو إلى بعضهم البعض، كما يلاحظ ردود الفعل لأعماله بالنسبة إلى الطبيعة أو الحيوان والإنسان:
1 ـ فمثلاً: يرى الشمس والماء والشجر والمروحة والمصباح، وينصدم بالهواء والحرارة، ويسمع الأصوات الطبيعية والحيوانية والإنسانية.
2 ـ ويرى معاملة بعض أفراد الحيوان للبعض الآخر، كالحيوانات الداجنة وبعض أفراد الإنسان لبعض في التكلم والتعارف والمصارعة ونحوها.
3 ـ كما يرى أنه إذا فعل فعلاً صار رد الفعل كذا، مثلاً: إذا ذهب إلى النار احترق، أو إلى السلم سقط، أو إذا بكى حملوه، أو أطعموه، وهكذا، ثم إنه يأخذ كل شيء ليراه جيداً، ويدخله في فمه ليعرف مذاقه وهكذا.
فإذا عرف الأشياء، يدخل تدريجاً في عالم الأفكار، أي يعرف ماوراء الأشياء، مثلاً أولا: يرى الكبريت، ثم بعد ذلك يشعر بأنه إذا قدح شبت منه النار، ويرى الدينار ثم يعرف أنه ذو قيمة، وهكذا… وبكل ذلك تنمو شخصيته ولذا كانت الشخصية رهينة الأفعال وردود الأفعال المحيطة به فإذا حقّروا الطفل نشأ محقّراً ذا عقدة، وإذا عظموه نشأ كبيراً سمحاً، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله الحسن عليه السلام فقال: هذا سيد ابن سيد (5).
وهكذا بالنسبة إلى الكرم والبخل، والشجاعة والجبن، واللطف والخشونة، والنظافة والوساخة، والأدب وسوء الأدب، وغيرهاـ، فإن الملكات كالبذور تبذر في النفس ويعتنى بها فتنمو من جنس ذلك البذر الذي بذر فيها… وبالجملة فالشبكات الاجتماعية الهائلة تأخذ شيئاً فشيئاً تحيط بالطفل فعلاً ورد فعل، وفي وسط تلك الشبكات تنمو ملكاته.
بين الضمير والمجتمع
وحيث أن فقي الإنسان حالة حكيمة داخلية مما يسمى [برؤية الحسن والقبح] وحيث أن الاجتماع وليد ضغوط ونتائج حاصلة من تلك الضغوط، بالأهم والمهم، والماضي والحال والمستقبل.
فميراث الماضي حيث يأخذ القدسية والعادة، ومصالح الحاضر، والاستعداد للمستقبل… وفي كل هذه الثلاثة [الأهم والمهم] يخلي المهم مكانه للأهم، كما أن الأهم من الماضي يزاحم المهم في الحاضر، والأهم المستقبلي يزاحم المهم في الماضي والحاضر].
أقول: حيث كل ذلك، تتكون عند الشخص [شخصيتان]:
1 ـ شخصية ضميره.
2 ـ شخصية اجتماعية.
فإذا خلى ونفسه أو بأفراد عرفه الخاص، الذين أطرت شخصياتهم شبيهة بالآخر، أظهر ضميره وتكلم وعمل بكل حرية أما إذا كان مع الاجتماع اضطر إلى أن يتنازل إلى شبكة الاجتماع حذراً من أن يفقد مصالحه، وهذا ليس نفاقاً، بل من باب ترجيح الأهم على المهم، وهي قاعدة عقلية.
وهذا هو الفارق بين [النفاق] و[المداراة] فالأول انتهازية ووصولية ونفعية، والثاني أهم ومهم، ومصلحة واحترام الآخرين، وقد ذم الله سبحانه الأول، قال: (ودوا لو تدهن فيدهنون) (6) وغيرها من الآيات، ومدح الثاني قال: (لتعارفوا) (7) وغيرها من الآيات.