المرأة والتنمية من منظور قرآني
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون (التوبة - 105)
(من تساوى يوماه فهو مغبون) (الإمام علي )
التنمية الشاملة والمستدامة من إمارات الإيمان القوي والراشد، بيد أن عملية التنمية الفاعلة تستند على الإنسان ذكراً وأنثى. فالمرأة نصف المجتمع ويجب ألا يُغفل دورها, وإذا كان ثمة ما يعيق تفعيل هذا الدور فتنبغي معالجته. وقد اتهمت الأحكام الإسلامية دائما بأنها وراء تخلف المرأة عن المشاركة في عملية التنمية، فما مدى صحة هذا الاتهام؟ وهل الأحكام الإسلامية بالفعل هي سبب هذا التخلف أم أن المسؤولية في الدرجة الاولى تقع على عاتق التأويلات البشرية للنصوص الإسلامية؟
ساوى الخطاب القرآني من حيث المبدأ والإنسانية بين المرأة والرجل, وباين في الأحكام الخاصة بكل منهما نتيجة تباين الخلقة, والشواهد على ذلك كثيرة منها: إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات - 13)، إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى (آل عمران - 195)، من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة (النحل - 97)، من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة (المؤمنون - 40)، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نفيراً (النساء - 124).
وذم سبحانه وتعالى الاستهانة بأمر البنات بأبلغ الذم فقال: وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوّداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هُونٍ أم يدٌسُّه في التراب ألا ساء ما يحكمون (النحل _ 58/59), وإذا الموؤودة سُئلت، بأي ذنب قتلت (التكوير _ 8/9). بل أنه وضع سبحانه الأنثى في موضع الأفضلية التي يُقاس عليها ويُمَثل بها فقال: والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى (آل عمران - 36). بيد أن اختلاف التشريعات القرآنية الخاصة بالرجل عن المرأة منشأه اختلاف وتباين الخلقة فكانت العلاقة بين دور الرجل والمرأة علاقة تكامل لا تماثل.
المرأة والتنمية الاقتصادية
مما لا شك فيه أن المرأة نصف المجتمع وان لديها طاقات هائلة شأنها شأن الرجل. صحيح أن وظيفتها الأساسية هي الأمومة, لكن الأمومة لا تستغرق كل وقتها في كل مراحل حياتها, إضافة إلى أن الوظيفة تمثل ضمانة للمرأة, واذا لم يستغل الفائض من طاقات المرأة في الخير والبناء فإنها ستهدرها في سفاسف الأمور. صحيح أن نفقتها مكفولة شرعاً وواجبة على الأب أو الأخ إن لم يوجد الأب ثم على الزوج, ولكن ماذا لو لم يوجد أي من هؤلاء؟ وحتى لو وُجدوا فإن حرمان المجتمع من طاقات المرأة تبديد لنصف ثروة المجتمع البشرية!
وكان للمرأة في صدر الإسلام نصيب لا يستهان به من المشاركة في ميدان الأعمال الاقتصادية, فكانت النساء يتصدين للحرب وأعمال كثيرة وينهضنَّ بقطاع أساسي من قوى العمل والتخصص والانتاج. قالت أم الحسن النخعي: "مرَّ على أمير المؤمنين رضي الله عنه فسألني: أي شيء تفعلين؟ قلت: أغزل, فقال: اعلمي أن الغزل من طيبات الكسب". وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها من كبار تجار الحجاز والبلدان المجاورة. وكانت الشِفاء من المبايعين الأوائل ومن المهاجرين ومن أعقل الصحابيات, وقد علَّمت عائشة وحفصة علم الطب والخط بأمر من رسول الله وقد قال عنها ابن حجر: "كانت من عقلاء النساء وفضلائهن وكان رسول الله ويقيل عندها في بيتها... كان عمر يقدمها في الرأي ويرعاها ويفضّلها وربما ولاّها شيئاً من أمر السوق" (الإصابةج8، ص 163).
وممن ورد اسمهن أيضاً سمراء بنت نهيك التي كانت تتولى الحسبة في السوق وكانت ترتدي درعاً غليظة وخماراً وبيدها سوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وتفيد الروايات المنقولة عن طريق الشيعة والسنة أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها كانت تتولى أوقاف وصدقات النبي صلى الله عليه وآله. ولم تتخل النساء عن الاهتمام بالخطابة في عهد الرسالة ولا عن الشعر. وقد كانت للشعر والخطابة أهمية كبرى عند العرب منذ الجاهلية بحيث كان لكل قبيلة خطيب وشاعر كانت عزة قبيلته او ذلتها رهينة بقدرته كونه لسانها الإعلامي. وقد برز عدد من الشاعرات والخطيبات من مثل أسماء بنت يزيد وأم سلمة, ومن الشاعرات صفية وأروى. كما توجد في كتب التاريخ أشعار نسبت إلى السيدة خديجة عليها السلام والسيدة الزهراء عليها السلام وأم سلمة وعائشة وفضة وغيرهن كثير. وقد اتخذت بعض النسوة إنشاد الشعر مهنة وكنَّ يقرأن في مجالس الأفراح والمآتم. وعملت النساء في صدر الإسلام في مهن كثيرة أخرى لا حصر لها. وممن عملن في الطبابة والجراحة: رفيدة وأم عطاء وأم كبشة وجمنة بنت جحش ومعاذة وليلى وأميمة والربيع بنت معوّذ. وشاركت نساء كثيرات في معركة خيبر وحصلن على سهمهن من الغنائم وكانت منهن أم زياد الأشجعية ومعها خمس نساء وقالت عن سبب خروجهن: خرجنا ومعنا دواء نداوي به الجرحى ونناول السهام ونسقي السويق.
وقد ورد ذكر مهنة الرعي في القرآن لابنتي شعيب "ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير" (القصص23). وهناك الكثير من المهن الأخرى التي امتهنتها النساء في عصر الرسالة والتي شجعها الرسول صلى الله عليه وآله عليها, وليس هناك من تحفظ إلا الالتزام بالآداب الإسلامية (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن).
المرأة والتنمية السياسية
شاركت المرأة في صدر الإسلام في الحياة السياسية بشكل واضح. فمن بيعة العقبة الأولى والثانية قبل الهجرة إلى مؤازرة النساء للرجال جنباً إلى جنب في كل الأحداث والمواقع دونما تمييز وفي كل المنعطفات السياسية كنا نجد دور المرأة بارزا.ً فبدءاً بالعقبة الأولى والثانية والهجرة وبعد وفاة الرسول , كان دور الزهراء بارزا.ً وفي حرب الجمل برزت عائشة أم المؤمنين. وفي واقعة الطف برز دور العقيلة زينب وبنات الرسالة وهلم جراً انطلاقاً من قوله تعالى: المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, ومن قول الرسول : كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته. فالمؤمن حاضراً قد يتسنم منصب وزير أو نائب برلماني ويقوم بواجب الإصلاح بكل أنواعه - وهو المعبر عنه إسلامياً بـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من باب كونه ولياً على المؤمنين والمؤمنات. وقد تتسنم المؤمنة هذه المناصب وتقوم بالعمل نفسه ومن المنطلق نفسه, وهو ولايتها على المؤمنين والمؤمنات. فالآية لم تفرق كما أنه صلى الله عليه وآله في الحديث "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" لم يفرق, اللهم إلا في ما يتعلق بالولاية العامة التي فيها نقاش حالياً في المحافل العلمية والحوزات, والتي هي من صلاحيات الرسل أو من ينوب عنهم, والتي تتطلب مشاقا جسدية ينوء عنها جسد المرأة لا عقلها.
ونرى في سيرة أهل البيت وهي المفسرة مع سيرة المصطفى أن فاطمة الزهراء كانت لها مشاركة سياسية واضحة حين خرجت في جماعة من نساء قومها وذهبت إلى مسجد أبيها وخطبت خطبتها الشهيرة. أما في واقعة الطف فإن العقيلة زينب لم تكن مشاركة فقط بل كانت القائد للركب بأجمعه من بعد أخيها الحسين والبقية هم المشاركون, وقد قامت بمسؤولية القيادة بكفاءة واقتدار، من رعاية الأطفال والنساء وابن أخيها المريض الإمام علي بن الحسين ومن القيام بالمهام الإعلامية المهمة التي أكملت الصورة وحققت أهداف ثورة أخيها . ولا نرى أثراً للمفاهيم السائدة حالياً من ان صوت المرأة عورة وإلا لما تكلمت الزهراء ولا العقيلة ولا فاطمة الصغرى. فالآية تقول: ولا تخضعن بالقول ولم تقل ولا تتكلمن واصمتن. فالكلام من الرجل والمرأة لبعضهما بعضا ينبغي أن يكون من دون ريبة ولا خضوع مما يبعث في النفس الريبة ويحرك كوامنها. ولا نرى أثراً ملموساً لما يتردد من أنه "خير للمرأة أن لا ترى رجلاً وألا يراها رجل". نعم هو خير بالتأكيد ولكنه ضرورة في الوقت نفسه لو تم ترشيدها فستسير سفينة الحياة إلى الأمام. فالاختلاط المرشد المحكوم بضوابط أخلاقية هو ما تكلم عنه سبحانه في قوله: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن". ولو كان الاختلاط ممنوعاً بشكل نهائي مرشَّداً أو غير مرشد فإنه لا داعي لذكر غض البصر من الطرفين ولبس الحجاب للمرأة لأنه لن يكون هناك التقاء مطلقاً، ولما خرجت النساء إلى المسجد في زمن رسول الله وصلين خلفه وحضرن درسه ولما كان هناك اختلاط في فريضة الحج والتي هي زيارة لبيت الله سبحانه واولى أن تُرعى حُرمه فيه. طبعاً الاختلاط المبتذل لا نتكلم عنه فحرمته من البديهيات وإنما الاختلاط المقنن بضوابط أخلاقية ولقضاء حوائج المجتمع البناءة لا الهدامة من الضرورات, ويعكس سنة الحياة والزهراء، التي تنسب لها هذه المقولة هي نفسها خرجت وخطبت وكانت مرجعاً علمياً يؤخذ عنها مثلما كان هناك روائيات أخر. والنساء كنَّ يخرجن مع الرسول في غزواته يقمن بأعمال الطبابة والاسعاف.
المرأة و التنمية الفكرية
مسألة الافتاء نرى النساء في صدر الإسلام الأول محدثات ومناقشات ومجادلات. ففاطمة الزهراء وقفت تناقش الخليفة أبا بكر في حقها في الإرث فاستدلت على منطقها بالقرآن وقالت "وورث سليمان داوود". وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: "فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب" وقال: "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله"و وقال "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين", وقال "إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين", وزعمتم: أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من ملة واحدة؟"... الى آخر احتجاجها (الاحتجاج ص102). أليس هذا افتاءً واستنباطاً؟
وفي حديث أن عائشة أم المؤمنين ذكر أمامها أنه نقل عن رسول الله ان الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه فردت "ولا تزر وازرة وزر أخرى". والتاريخ الإسلامي يذكر الكثير من المحدثات من الشيعة والسنة. فهناك إضافة إلى عائشة وفاطمة الزهراء، أم سلمة وشهدة بنت أبرى التي كانت تدرس رجالاً خرج منهم رواة مثل ابن عساكر وابن الجوزي, ومنهن السيدة نفيسة بنت الحسن التي يقول الأستاذ عبد اللطيف فايد ان دارها "كانت مزار كبار العلماء في عصرها يجلسون إليها ويستمعون منها ويناقشون مسائل العلم". وهناك اشارات في التاريخ لا ندري لماذا يُغض الطرف عنها من ان سكينة بنت الحسين عليه وعليها السلام التي شاركت أباها في ثورته شاركت بعد ذلك في الحركة الثقافية والأدبية وكان لها مجلس أدب وكانت أديبة عالمة تقية عفيفة لا ينال منها خطبها أكابر الرجال, لكنها كانت متعففة ومن بين من خطبوها الحجاج فنكست رأسها بطريقة صده وهي التي من شدة تبتلها لقبها أبوها بسكينة بعدما كان اسمها آمنة
.
المرأة وقوامة الرجل
كثيراً ما يتم الخلط بين قوامة الرجل في بيته على زوجته وأولاده وقوامته في المجتمع على اي امرأة يتعامل معها, إن كان في إطار عمل أو دراسة أو عمل اجتماعي أو سياسي. فنرى كل رجل يوجد في أي منظمة علمية، اجتماعية أو سياسية مع أي امرأة يعتبر نفسه وغيره من الرجال قيماً أو قيمين على بقية النساء من دون وجه حق. أما القوامة داخل الأسرة التي هي من حقه فهي من باب تنظيم مؤسسة الأسرة التي مثلها مثل أي مؤسسة أو منظمة لا بد لها من نظام فيه رئيس وأعضاء ولا بد أن تعطى القيادة لأحد الطرفين, وهي لا تعني القيادة التسلطية وإنما الشوروية التعاونية مثل أي قيادة واعية متحضرة (وأمرهم شورى بينهم).
وقوامة الرجل على زوجته هي فقط في ما يختص بشؤون الأسرة, وليس له قوامة على إنسانيتها ولا على أنشطتها الفكرية وغيرها خارج المنزل إذا لم تُقصر في حقه وحصتها من الواجب داخل المنزل الذي ينبغي أن تقتسم بين الطرفين كل على حسب ظرفه. ومن هنا فإن فتوى السيد الخوئي (ره) أن خروج المرأة من بيتها لا يجوز فقط إذا تعارض مع حق زوجها (الفراش) وان تستأذنه فقط إذا كان الخروج متعارضاً مع حقه، أما مبررات إعطاء القوامة للرجل دون المرأة فقد ذكرها سبحانه "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم" فهي:
أولاً "بما فضل الله بعضهم على بعض" اذ أن الرجل يمتاز بالقوة الجسدية على المرأة التي تمتاز بالرقة والجاذبية على الرجل وفيض العاطفة بحكم متطلبات الوظيفة الفطرية (الأمومة) وهذا مما يؤهله للقوامة التي تأتي العصمة استتباعاً لها وإن كانت المرأة تستطيع أخذ هذا الحق في ما لو اشترطت ضمن عقد الزواج, وهذا الأمر فيه نقاش حالياً.
ثانياً: "وبما أنفقوا من أموالهم", فقد تكون المرأة عاملة ولكن النفقة ليست واجبة عليها. وبما أن الرجل هو المنفق وجوباً فإن هذا من مبررات القوامة مثل أي ممول لأي مشروع أو منظمة اذ يؤهله ذلك أو يعطيه الحق بالقيادة. وهذه القوامة كما ذكرنا لا تعني التسلط وإنما على طريقة الرسول صلى الله عليه وآله الأسوة في علاقته بزوجاته, والإمام علي عليه السلام بفاطمة الزهراء عليها السلام. والجدير بالذكر أن القوامة أيضاً لا تعني فقدان المرأة لاستقلاليتها في الرأي والشخصية ولا تعني التبعية المطلقة للرجل وإن كان التفاهم مطلوباً واساس الحياة الزوجية المستقرة, ولكن لا إلغاء لعقل المرأة. ولنقرأ ما ورد في كتاب الاحتجاج من أن الزهراء عليها السلام كلمت الإمام علي عليه السلام - مع اعتقادها بعصمته وقوامته عليها- معاتبة له على سكوته عن حقه وعدم نصرته لها بالمطالبة بحقها في فدك فقالت: "يا ابن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين نقضت قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل..."(الاحتجاج صـ107).